الشارع الذي ينكرني...



                                               




    يعيش شارعي هذا أيامه في دوامة من التكرار، أناس لا أعرفهم ولا يعرفونني، لا تسكن أسمائهم ذاكرتي، أرى وجوههم تقترب مني ثم تتجاوزني وكأني كائن من الفراغ لا يرى، كائن من اللا شيئ. أشعر أن لنا لقاءا كان في غياهب مدن النسيان والغبار،غير أنني مصابة بمرض فقدان الأسماء ونسيانها. إنني إلى غاية اللحظة، أتذكر كل الأشياء الماضية من حولي كالأماكن والأحداث والكلمات التي قيلت، أتذكر بكل دقة كل الإبتسامات التي ارتسمت و كل العبرات التي نزلت من أبارالعيون في حضوري، غير أنني أفقد الأسماء و كأن ثمة ثقب في ذاكرتي تهرب منه الأحرف فلا يبقى لي سوى بعض من الحركات و  النقاط تذكرني أنهم كانوا هنا يوما.. كانوا أمامي يوما.

   أراهن ببعض من الدنانير التي في جيبي، وهي كل ما أملك، أن هناك علاقة ما تجمعني مع أصحاب الوجوه المارة أمامي، لا يلحظون جلوسي على هذا المقعد ولكنني أراهم على مقربة من ذاكرتي الضعيفة، قد أكون تبادلت حديثا طويلا لعدد من الساعات في إحدى المقاهي وسط المدينة .الجلوس في المقاهي والتكلم في كل المواضيع التي تحتمل التكلم عنها وايجاد الكلمات في سبيلها، التحدث عن السياسة والرياضة و الحالة الإقتصادية والإجتماعية، عن الموسيقى و التاريخ والفلسفة، عن آخر فلم شاهدته وآخر كتاب قرأته مع من لم يسبق لي لقاء معهم، عادة سيئة مني لم أستطع التخلي عنها رغم  تكرار محاولاتي، أتصدق أنني كثيرا ما كنت أهرب من حصص الرياضات كي أجلس مع من هم أكبر مني وأصغر أشاركهم شرب كأس من الشاي الأخضر أو فنجان قهوة لا يتجاوز ثمنه دينار الواحد. مبلغ زهيد مقابل ثرثرة طويلة.. 

 لي معهم حكاية لا يعرف تفاصيلها هذا الشارع أمامي، قد يكونون أصدقاء لي على موقع فايسبوك الشهير، وآمل أن لا أكون قد أضفت ألفا دون وجه حق،  لي مع حرف الألف حكاية تجعلني أضيفه حرفا بحجم حرف بداية اللغة و بداية الأبجدية دون وعي مني، حكاية لا رغبة لي بأن أسرد على مسامعك الآن، المهم، قد نكون تبادلنا التعليقات واللايكات، و ربما بعض الرسائل القصيرة المقتضبة التي تنتهي بزهرة وردية من طرفي، أحب تلك الزهرات الإلكترونية الوردية وأهدي الكثير منها، قد تنتهي أيضا بمشاهدة للرسالة دون كتابة رد مني، قد أكون القيت عليهم تحية السلام حين كنت أقف تحت أحد الأسقف الحديدية الخضراء في انتظار الحافلة الخضراء، وها أنني الآن أهرب من نظراتهم، أركض و اختبئ وأدندن رائعة الراحلة ذكرى محمد :" الأسامي هي هي والقلوب تغيرت "    



 غرباء وغريبة جمعتهم الصدفة و شأن من شؤون الحياة في هذا الشارع الطويل.. وحده من يعرفهم، يحفظ وقع خطى كل واحد منهم، يحتفظ ببصمة خاصة وخطوة خاصة لكل واحد منهم، وحده من له القدرة على فك شيفرات تفاصيل اعتلت وجوههم، يقرؤها فيبتسم، ضحكة نتاج الشعور بالرضا و السعادة، لابد له أن يبتسم، انه يشعر أنهم أحياء هنا رغم سواد تلك التفاصيل.

 أنظر حولي و أطيل النظر إلى طول و عمق إمتداد هذا الصرح التاريخي أمامي، أنظر خلفي وأمامي إلى الجانب الأيسر والأيمن منه، إلى كراس نامت تحت الأشجار من تعب المارة  تنفض عنها غبار لقاء حب هزمته الأقدار فلم يكتمل. تغريني فأتقدم نحوها وأجلس في حضرتها أمد بصري إلى المقاهي قبالتي، إلى الأوتيلات، إلى المحال التجارية، إلى شرطي يقف خلف سياج شائك هو أيضا  ينظر لي.
  يبدو أن فعل النظر و تأمل الوجوه أصبح عادة منتشرة  في بلدي هذه الأيام. وما أكثر الوجوه التي  نلتقيها في الساحات والميادين ولا نعرفها، لا أحد يعرف من أين أو متى جاءت، فجأة فتحت لها أبواب المطارات والحدود وجاءت من كل المدارس البعيدة الباردة التي تعلمت داخلها كيف تنهش وتقتسم وجبة فطور تنصب كلما رفع الأذان. حللت نهش أجسادنا وباركت شرب دمائنا وادعت أنها جاءت رسولا ينير ظلمة واقعنا، رسول وحده من يملك مفاتيح جنة الديمقراطية التي ننشدها، يعبد طريق حريتنا حسب هواه هواه الذي لا يكبر إلا بالدم . 

   أغرق في تفاصيل هذا الشارع حتى  يخيل لي أنني أسمع أصواتا ثائرة تأتي من البعيد، أسمع صوت خطاها تقترب أكثر فأكثر، يكفهر وجه الشرطي ويتأهب لمعركة أطلقت صيحات فزعها وأصبحت واقعا لا مفر منه. إنها تقترب، ثلاث خطوات فقط  تفصلني عنهم. أنصت إلى صراخ شاب يرفع على الأكتاف، شاب أسمر البشرة لا يبدو أنه من أبناء هذا الشارع، لهجته ريفية، سمعته يضيف نقطة إلى حرف قاف كما يضيف نقاطا على أحرف حلم طالما رواده خلال دقائق يقظته قبل ساعات أحلامه.. نقطة بحجم أبجدية الوطن. 
 أرى جبينه يتصبب عرقا، بح صوته، يلتقط أنفاسه من بعد كل خطاب يلقيه أمام جماهير تعلو حناجرها صراخا وتردد شعارا اجتهد طوال الليلة الماضية في إيجاد كلماته، يبتسم قليلا، يصمت تزداد ابتسامته اتساعا كلما ازدادت الحناجر حماسا وصراخا.إن الحلم  الذي طالما راوده أصبح على بعد خطوات قليلة  فقط واقعا ملموسا.

  يمضي قدما نحو درب وحدها تلك الحناجر من ترسمه، تعلو الشعارات المكررة أكثر من كل المرات التي رفعت فيها على طول هذا الشارع، خطابات تلقى من هنا وهناك، أياد ملوحة بالرحيل تحمل خبزا يقطر ظلما وقهرا، أقفاص للطيور تفتح عاليا، أنفاس تحبس، أجساد تتدافع، أوامر بالإعتقال و الخطف والسحل  تنهمر من أعلى بناءات هذا الشارع كالسيل الجارف، متراك يهوي بلا هوادة، لا يفرق بين شيخ أو امرأة أو طفل لا يتجاوز في العمر خامس أعوامه، أراه لا يفهم شيئا من كل الفوضى التي تحيطه، ينظر نحو الأفق، نحوغرفته الصغيرة  حيث طنجرة الطعام والكابتن ماجد ينتظره.

  تزداد الأوامر همجية وارتباكا، فتزداد الحناجر وحدة وإصرارا على شق طريق حريتها دون أن تولي بالا لكل الأشواك والمخاطر التي تملأ طريقها وتنبت في كل جوانبه.  ينتشر الغاز المسيل للدموع فتدمع الأعين، تتفرق الحناجر الثائرة وتختبئ بين تفرعات الشارع الرئيسي لعاصمتي، ثوان من الصمت من الهدوء تمر كأنها الدهر كأنها الأبد، ومن دون أي تخطيط مسبق بينها، وفي لحظة انفجار لا قدرة لأحد على التنبؤ بها، تعود تلك الحناجر إلى الساحة كما  تعود الأسود  إلى عرائنها، بذات الإصرار والحماسة.

  فرقعات قنابل العاز تصم أذني وهي تدوي مرة أخرى بصورة أكثر همجية و رغبة في كتم الشعارات وخنقها. وسط هذه السحابة من الغاز ترمى حجارة وحيدة هاربة من إحدى الأرصفة ثم يلحقها سرب طائر من الحجر في مشهد مماثل لمشاهد تناولتها وكالات الأنباء أيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية. مشاهد علقت في ذاكرة المشاهد التونسي  وهاهي اليوم تنقل من ساحاته مؤكدة أن القهر لا يفرق بين الساحات والأوطان. إرادتهم الصلبة اقتلعت إسفلت الشارع المبلط وسط ذهول رصاص قناصة اعتلت أسطح المباني الواقعة على طول جانبي الشارع  في معادلة أقرتها حروب  وثورات سابقة، حجارة الحق  مقابل  رصاص الباطل.

   تغيب الشمس لتشرق من جديد والشارع على حاله. تكرار أحداث يوم أمس دون تغيير يذكر. نفس الشارع، نفس الشاب، نفس الشرطي، نفس الأيادي، نفس الخبز، نفس الأقفاص ونفس الحناجر الثائرة، نفس القهر ونفس الظلم، غير أن هذا المساء فتحت الأعين على وسعها في انتظار خطاب يلقى تمام الثامنة مساءا، خطاب لم يزد الطين إلا بلة و لم يزد النار إلا اشتعالا، حالة من الغليان من بعده، حالة من الهيجان لا قدرة على التحكم فيها أو العودة بها إلى الوراء. الرصاص قد أطلق والجثث قد تساقطت كتساقط أوراق الخريف بتلك السهولة، لا مكان للتراجع الآن ولا مكان للخوف الآن.

 تزداد الأمور تعقيدا، إن تلك الصرخات كانت كفيلة بأن تقلب موازين المعركة و تقر أحد السيناريوهات التي لم تكن تخطر على بال أمهر المستشرفين. ينتظرون خبرا تاريخيا منذ سويعات ليأتي التأكيد على مدى تاريخية الحاضر حين ارتفع صوت محرك طائرة فارة حاملة معها فصلا من تاريخ هذا الشارع وهذا الشعب.

  حالة من الذهول التام، حالة من النصر التام.  صراخ يطغى على صوت محرك الطائرة فيخرسه، صراخ يقطع هدوء الشارع ويخرق قرار حظر تجوال كان قد فرض سابقا، إنني أسمعه جيدا إنني أعرفه جيدا،  يصرخ بكل مافيه من جمال اللهجة التونسية وقوتها و شموخها : 

 " معادش تخافوا من حد
تحررنا.. الشعب التونسي حر.. الشعب التونسي ما يموتش
الشعب التونسي العظيم
تحيا تونس الحرة
المجد للشهداء
الحرية للتوانسة
يا توانسة يا مهجرين
يا توانسة يا اللي شديتوا الحبوسات
يا توانسة يا اللي عذبوكم
يا التوانسة يا اللي قهروكم
يا التوانسة يا اللي غبنوكم
يا توانسة يا اللي سرقوكم تنفسوا حرية
شعب تونس هدالنا الحرية، يحيا شعب تونس
تحيا تونس العظيمة، تحيا الحرية المجد للشهداء
يا توانسة معادش فمة خوف
بن علي هرب
بن علي هرب
بن علي هرب
من الشعب التونسي بن علي هرب
الشعب هو اللي يحكم
المجد للشعب ..المجد للشهداء
العظمة لتونس والبقاء للشعب التونسي
يا شعبنا يا عظيم، يا شعبنا يا باهي
يا شعبنا يا اللي عطيت الغالي
يا شعبنا يا اللي عطيت أولادك
يا شعبنا يا اللي عطيت فلذات أكبادك
يا شعبنا يا باهي، يا شعبنا يا سمح، .يا شعبنا يا عظيم
بن علي هرب
يحيا الشعب، تحيا الحرية، تحيا تونس الحرة
المجد للشهداء "



 بدأت المشاهد أمامي تتلاشى شيئا فشيئا، كتلة من البخار كانت و اختفت، الحناجر الثائرة تتراجع إلى الوراء ويختفي حماسها، تبتعد عن مقعدي وتودعني تاركة خلفها زهرة ياسمين، تحمل حقائبها وتغادر إلى البعيد، إلى حدود سجنت داخلها الأمال بالتحليق عاليا والطيران بحرية، إلى ساحات جديدة تغادر، تلوح لي مبتسمة و أودعها باكية، أعلم في قرارة نفسي أنها تودعني راحلة إلى ساحات خراب ودم. 


  الشارع الرئيسي لعاصمتي، شارع الحبيب بورقيبة أعرفه فينكرني، ينكر خطاي كأنني لم أعبره يوما. 







  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة